تواصل الليرة السورية هبوطها أمام العملات الأجنبية لتسجل أدنى مستوى لها منذ خمسة أشهر، في انعكاس واضح لأزمة نقدية متفاقمة تُقوض محاولات الحكومة السورية لفرض استقرار مالي وسط اقتصاد مثقل بالعقوبات والعجز الهيكلي.

وبحسب بيانات موقع “الليرة اليوم” المتخصص في تتبع أسعار الصرف غير الرسمية، بلغ سعر الدولار الأميركي في السوق السوداء بدمشق، الإثنين، نحو 11,650 ليرة للشراء و11,750 ليرة للمبيع، وهو أدنى مستوى تسجله العملة المحلية منذ أيار/مايو الماضي.

اتساع الفجوة بين السعر الرسمي والموازي

 أما السعر الرسمي الذي يحدده مصرف سوريا المركزي فما يزال عند 11,000 ليرة للشراء و11,110 ليرة للمبيع، وفق نشرته اليومية الصادرة اليوم، ما يعكس فجوة متزايدة بين السعرين تزيد عن 600 ليرة لكل دولار.

ويعكس هذا التفاوت بين السعر الرسمي والموازي فقدان السوق للثقة في السياسة النقدية الرسمية، إذ لم تفلح القيود التي فرضها المصرف المركزي على التحويلات والسحوبات والعمليات بالقطع الأجنبي في احتواء التراجع أو تقليص نشاط السوق الموازية.

وباتت السوق غير الرسمية المرجع الفعلي لتسعير السلع والخدمات في سوريا، حيث يتم تحديد أسعار معظم المواد المستوردة والمحلية وفق سعر صرف الدولار في السوق السوداء لا في المصارف.

اقتصاد منهك وتضخم متسارع

يأتي هذا الانخفاض الجديد في وقت يواجه فيه الاقتصاد السوري تحديات متعددة، أبرزها التضخم المرتفع الذي تجاوز 80 بالمئة خلال العام الماضي، وتراجع الإنتاج الصناعي والزراعي، إضافة إلى تقلص حجم الحوالات الخارجية التي كانت تشكل مصدر دعم رئيسي للعملة.

تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن إجمالي الناتج المحلي السوري لا يتجاوز اليوم 20 مليار دولار، أي أقل بنحو ثلثي مستواه قبل اندلاع النزاع في 2011، بينما يعيش أكثر من 90 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر وفق الأمم المتحدة.

استنزاف الاحتياطيات الأجنبية وغياب قنوات تمويل خارجية موثوقة جعلا من الصعب على المصرف المركزي الدفاع عن الليرة أو التدخل في السوق بفاعلية، إذ يعتمد حاليًا على إجراءات إدارية قصيرة المدى بدلًا من أدوات نقدية تقليدية.

عقوبات خانقة واحتياطيات شبه معدومة

 كما أن العقوبات الغربية، خصوصًا “قانون قيصر”، تقيّد قدرة دمشق على التعامل مع المصارف الدولية أو استيراد المعدات والتكنولوجيا اللازمة لدعم الإنتاج، ما يعمق الاختناق المالي ويزيد من ضعف الثقة بالسياسات الرسمية.

وفي ظل هذا الوضع، تلجأ الحكومة إلى إجراءات ترشيد نقدي مؤقتة، مثل إلزام التجار بتسعير البضائع بالليرة السورية ومنع التداول بالدولار، لكنها إجراءات لا تجد صدى واسعًا في السوق.

فبحسب تقارير محلية، تتزايد مظاهر “الدولرة الصامتة” للاقتصاد، حيث تُسعر الخدمات الطبية والتعليمية الخاصة وحتى الإيجارات بالعملة الأجنبية رغم القيود القانونية، ومن شأن هذه الظاهرة  أن تخلق تحوّل تدريجي نحو اقتصاد موازٍ يفقد فيه البنك المركزي السيطرة على السياسة النقدية.

وفي حين تحاول الحكومة الإشارة إلى مؤشرات “استقرار نسبي” في بعض القطاعات الإنتاجية، فإن المؤشرات النقدية تظهر العكس، فضعف الصادرات، وتراجع الاستثمارات الأجنبية، وتباطؤ تنفيذ مشاريع إعادة الإعمار، كلها عوامل تضغط على سعر الصرف وتزيد من اعتماد الدولة على التمويل بالعجز.

احتمالات ضئيلة للتعافي النقدي

بحسب تقرير نشرته وكالة رويترز في مطلع العام، فإن الاحتياطيات الأجنبية المتاحة لدى السلطات السورية “شحيحة للغاية”، ما يجعل أي تدخل فعال في سوق الصرف أمرًا محدود الأثر زمنيًا.

وبينما تشير تصريحات رسمية إلى نية الحكومة الانتقالية نحو توحيد سعر الصرف وتعويم مُدار خلال السنوات المقبلة، فإن الظروف السياسية والاقتصادية الراهنة تجعل تحقيق ذلك رهنًا بتخفيف العقوبات وتدفق رؤوس أموال خارجية جديدة.

وحتى ذلك الحين، يظل سعر الدولار في السوق السوداء المؤشر الأكثر صدقًا على حال الاقتصاد السوري، الذي يواجه اليوم واحدة من أكثر أزماته النقدية عمقًا منذ عقود، في مشهد تتقاطع فيه هشاشة الثقة المحلية مع عزلة مالية دولية خانقة.