مع اقتراب فصل الشتاء، تعود روائح “المكدوس” والفليفلة والباذنجان والجوز والجبنة والمخللات لتملأ الأسواق والبيوت السورية، معلنة بداية موسم المونة الذي طالما شكّل جزءاً من حياة الأسر وذاكرتها الجماعية، بعد سنوات من التراجع بسبب الغلاء. إذ يبدو أن 2025 هو عام العودة القوية لهذا التقليد، مع ميزات جديدة، انخفاض الأسعار، وفرة الإنتاج المحلي، وعودة السوريين المغتربين واللاجئين، ونجاح المواسم الزراعية.

من خلال جولة أجراها “الحل نت” على الأسواق في دمشق، تبين أن أسعار المواد الأساسية أكثر تيسيراً، حيث تتراوح اسعار الفليفلة بين 3,500 و4,700 ليرة، بينما كانت العام الماضي ما بين 10,000–12,000 ليرة، أما الباذنجان يُباع بـ 3,500–5,000 ليرة وانخفض بنسبة 90 بالمئة، بينما أسعار الجوز انخفضت بنسبة 100بالمئة حيث أصبحت تباع بين 40–80 ألف ليرة، وأيضاً أسعار الجبنة انخفضت من الـ 60 ألفا إلى 25 ألف ليرة سورية للكيلو.

انخفاض الأسعار لم يكن العامل الوحيد، فوفرة الإنتاج المحلي ومحدودية التصدير إلى الخارج، إضافة إلى عودة كثير من السوريين وحنينهم إلى الطقوس القديمة، ساهمت جميعها في انتعاش موسم المونة بشكل واضح.

 موسم عمل طويل وحركة نشطة

في الأسواق، يشير تجار الخضار إلى أن الإقبال الكبير على المونة هذا العام جاء نتيجة تداخل عدة عوامل، تبدأ بانخفاض الأسعار ووفرة الإنتاج المحلي، مروراً بضعف التصدير، وصولاً إلى رغبة الأسر بإحياء طقوسها التقليدية.

أبو ناصر يعمل في تجارة الخضار منذ أكثر من 25 عاماً في سوق الهال بدمشق، وقد شهد على مر السنوات تراجع وارتفاع الحركة السوقية تباعاً. يقول إن هذا الموسم مختلف عن السنوات السابقة من حيث حجم الإقبال على المونة، مشيراً إلى أن الطلب على “المكدوس” والفليفلة والخضار ارتفع بشكل ملحوظ.

“الحركة السنة كبيرة جداً، الطلب على أغراض المونة عالي، لأنه صار في انخفاض بالأسعار ساعد الناس يشتروا كميات أكبر، حتى السوريين اللي رجعوا عم يعملوا المونة متل زمان”.

أبو ناصر، تاجر في سوق الهال

أبو خالد، وهو أيضاً يعمل في سوق الهال، يقول إن تحضيرات العائلات لموسم المونة بدأت مبكراً هذا العام، وأن الإقبال الحالي أعلى من المواسم السابقة، مما ينعكس على حركة البيع اليومية في السوق، لكن ذلك لا يعني أن الأسعار تناسب جميع فئات المجتمع.

ويضيف أبو خالد: “قد ما صار في انخفاض بالأسعار الا ما يكون في فئة بالمجتمع مانها قادرة تمون للشتوية وهاد الموضوع بيزعجني ولكن الحمدالله هاد الموسم أفضل بكتير من باقي السنوات يلي مرت، ومتفائلين لسى تنزل الاسعار اكتر لحتى كل الناس تقدر تمون”.

ولفت، في حديث لـ “الحل نت“، إلى وجود إقبال “حتى على المواد الثانوية مثل المخللات والجبنة، والمواسم الزراعية الناجحة انعكست إيجاباً على السوق”.

حارسات الطقوس والمذاق التقليدي

بالنسبة للكثير من النساء، المونة ليست مجرد عملية تخزين للطعام، بل نشاط جماعي يعيد إحياء روابط اجتماعية تراجعت خلال السنوات الماضية.

هذا ما أشارت إليه أم رولا، سيدة خمسينية مقيمة في دمشق، تشارك في تحضير المونة منذ سنين طويلة، وقد تعلمت الوصفات التقليدية من والدتها وجدتها، إذ تعتبر موسم المونة فرصة لإعادة إحياء الطقوس الأسرية وربط الأجيال بالخبرات التقليدية للطهي.

“موسم المونة هو مو مجرد أكل عم نمونه للشتوية إنما عادات وتقاليد تقوي الروابط العائلية، نجتمع انا وسلايفي بالبيت الكبير ونجهز للمونة سوا، هي السنة لقينا رخص بالأسعار خصوصاً الباذنجان والجوز والفليفلة، صار في حركة منيحة السنة”.

أم رولا لـ “الحل نت”

تشاركها الرأي سارة عبد الرحمن، شابة في أوائل العشرينات، والتي لم تتمكن من إعداد المونة العام الماضي بسبب الغلاء، لكنها عادت هذا الموسم لتشارك في الطقوس التقليدية مع أسرتها، تعتبر المونة وسيلة لإعادة التواصل مع الذكريات المنزلية وتجربة الحياة اليومية التقليدية في دمشق.

وتقول عبد الرحمن لـ “الحل نت“: “السنة الماضية ما قدرنا نعمل مونة بسبب الغلاء، هالسنة الأسعار أفضل، ولو أنو لسا مو قدرة كل الشعب بس أحسن من قبل فحبّينا نرجع نعيش الجو القديم ولو بكميات بسيطة على قدنا”.

تُظهر هذه العودة أن المونة ما تزال جزءاً من الثقافة الغذائية والاجتماعية للسوريين، رغم التبدلات الاقتصادية الكبيرة.

انعكاس لتغيّر في نمط الإنتاج

يرى الخبير الاقتصادي الدكتور سيفان عيسى أن تراجع الأسعار هذا العام لا يمكن قراءته فقط كظاهرة موسمية، بل كمؤشر على تغيّر في أنماط الإنتاج والاستهلاك داخل المجتمع السوري.

يقول عيسى لـ “الحل نت“، إن “ما نراه هو عودة تدريجية للتوازن بين الريف والمدينة، الإنتاج المحلي ازداد بعد استقرار نسبي في بعض المناطق الزراعية، وهذا قلّل الاعتماد على المواد المستوردة والمهربة، ما خفّض الأسعار”.

“المونة اليوم صارت تُعامل كنوع من الاستثمار العائلي، لأنها تحافظ على القيمة الغذائية والمالية، وتوفّر بديلاً عن ضعف الادخار النقدي”

الخبير الاقتصادي الدكتور سيفان عيسى

بعيداً عن بعدها الغذائي، باتت المونة مؤشراً على تكيّف المجتمع السوري مع الواقع الاقتصادي، إذ إن عودة هذا النشاط إلى الواجهة تعبّر عن رغبة في استعادة جزء من الحياة الطبيعية، وتحويل العادات التقليدية إلى أدوات بقاء واستقرار.

مشهد انتعاش جماعي

ساهم ضعف الاستيراد وارتفاع تكاليف المعيشة في إعادة تنشيط الإنتاج المحلي وتحويل المونة إلى جزء من الدورة الاقتصادية المنزلية، فبعض الأسر باتت تبيع جزءاً من مؤونتها لتأمين دخل إضافي، ما جعل من المونة نشاطاً اقتصادياً موازياً للأسواق الرسمية.

في الأسواق، يمكن ملاحظة هذا الانتعاش بوضوح، ازدحام أمام محلات الخضار، وحركة بيع متواصلة، ناهيك عن تغيرات واضحة في أنماط الشراء خلال السنوات الأخيرة.

ويقول أبو فراس، تاجر في دمشق، يعمل في تجارة المواد الغذائية، إن الطلب على المونة هذا الموسم ارتفع بشكل ملحوظ، وإن بعض الأسر أصبحت تبيع جزءاً من إنتاجها لتأمين دخل إضافي.

“بعض العائلات صاروا يبيعوا جزء من المونة، يعني صار في نوع من التجارة الصغيرة داخل البيوت، منه دخل للبيت ومنه مساعدة للناس يلي ما عندا وقت تعمل مونة”.

أبو فراس، تاجر مواد غذائية

المونة اليوم ليست مجرد عادة منزلية، بل نشاط اقتصادي واجتماعي متجذر في الذاكرة السورية، يعيد التوازن بين الاستهلاك والإنتاج المحلي، ويعكس قدرة المجتمع على التكيّف مع الظروف.

ورغم التحديات الاقتصادية، تبقى المونة واحدة من المظاهر القليلة التي ما تزال تجمع السوريين حول عمل مشترك، في المطبخ أو في السوق، بين الغلاء والحنين.